فصل: تفسير الآيات (100- 101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (96- 97):

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)}.
التفسير:
فى هاتين الآيتين الكريمتين ما يكشف عن الأسس القويمة التي قام عليها دين اللّه، بدءا وختاما، فكان هو الإسلام في مبدئه وختامه.
فاولا: إبراهيم عليه السّلام- هو أبو الأنبياء، ومن ذريته، وعلى دينه، داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهرون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوطا، ومحمد.. عليهم صلوات اللّه وسلامه.
وثانيا: البيت الحرام الذي بمكة هو أول بيت وضع للناس، في هذه الأرض، ليكون مصدر الخير والبركة، ومعلم الهدى والنور للناس أجمعين.
ثالثا: هذا البيت الحرام، كان مصلّى إبراهيم ومقامه، ساقته العناية الإلهية إليه، ليجدّد معالمه، ويرفع قواعده، ويعدّه لاستقبال الرسالة التي بدأها، حين يتمّ تمامها، وتبلغ غايتها على يد آخر المرسلين من أبنائه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام.
وهذا البيت الذي اتخذه إبراهيم مصلّى له، هو بيت اللّه، وهو أول بيت على هذه الأرض اتصل فيه الإنسان بربّه، منذ طفولة الإنسانية الأولى.
فلما اصطفى اللّه إبراهيم لرسالته، دعاه إلى تجديد معالمه، ورفع قواعده، ولم يكن إبراهيم هو الذي أنشأه وأقامه.. فهو أقدم من إبراهيم بأزمان بعيدة، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [125 البقرة].
ففى قوله تعالى: {وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ} إشارة إلى أنه كان بيتا للّه قبل أن يعهد اللّه إلى إبراهيم وإسماعيل بتطهيره من الأوثان التي عبدها العابدون فيه.. ثم يقول اللّه تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ} [127: البقرة].
وفى هذا إشارة أخرى إلى أن البيت كان قائما على قواعد، وأنها كانت إلى عهد إبراهيم وإسماعيل قد تهدمت.. فكان عمل إبراهيم وإسماعيل فيها هو إقامتها على أصولها التي كانت عليها.
رابعا: في اشتراك إسماعيل مع أبيه إبراهيم في إقامة هذا البيت، وتطهيره من الأوثان.. إعداد- كما قلنا- للرسالة المحمدية، التي ستكون ميراثا خالصا له من أبويه الكريمين: إبراهيم وإسماعيل.
من هذا يبدو أن الرسالة الإسلامية المحمّدية كانت هي الفلك الذي تدور فيه رسالات الأنبياء والمرسلين، وأنها الجامعة التي تجتمع إليها جميع الرسالات، وتلتقى عندها، كما أنها كانت هي المنبع الذي فاضت منه عيونها، والكوكب الذي استمدت منه شعاعاتها.. فالرسالة الإسلامية المحمدية هي المبدأ والختام، بدأت كما يبدو الهلال، يكبر ليلة بعد ليلة، حتى يتم تمامه ويصير بدرا، ففى كل نبوّة، وبين يدى كل نبى، قبسة من أقباس الإسلام، وضوءة من أضوائه، حتى جاء صاحب الرسالة الإسلامية، محمد ابن عبد اللّه، فوضعها اللّه بين يديه، على أتم تمامها، وأكمل كمالها.
وقوله تعالى: {مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ} حالان لنائب الفاعل للفعل {وضع} أي وضع البيت مباركا وهدى للعالمين.
وقوله تعالى: {فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ} بيان للبركة التي شملت هذا البيت، وللهدى الذي يفيض على الناس منه.. وتلك الآيات كثيرة.. منها أنه كان أقدم بنيّة للّه على هذه الأرض، ومع ذلك ظل محتفظا بوجوده، لم تذهب به الأحداث، ولم يأت عليه الزمن كما أتى على آثار الأولين، وعفّى على كل معلم من معالمها.. أما هذا البيت فهو أقدم معلم على هذه الأرض، ومع ذلك فهو لا يزداد مع الأزمان إلا وضوحا ورسوخا.. حتى في عهود الضلال والوثنية.
كان له في قلوب الوثنيين وفى عقولهم من الإجلال والتقديس ما له في قلوب المؤمنين وعقولهم من إجلال وإكبار وتقديس! ومن الآيات القائمة فيه، أنه كان ولا يزال أبدا حرما آمنا، يجد عنده من يلوذ به من إنسان وحيوان وطير، الأمن والسلامة، فلا تمتد إليه يد بأذى ولا يناله أحد بمكروه، توقيرا لهذا البيت، وتكريما لمقامه الكريم.. حتى إن أشدّ الناس فتكا، وأقساهم قلبا، وأكثرهم إضرارا بالناس وأذى، لا يجد في نفسه القدرة على انتهاك حرمة هذا الحرم.. بل إنه سرعان ما يستولى عليه شعور الأمن والسلام، وإذا هو أمن وسلام، مع المؤمنين السالمين، في جوار الحرم الأمين.
ومن الآيات البينات في هذا البيت أنه لا يزال أبدا مهوى الأفئدة، ومجتمع الحجيج من مختلف الأمصار والأجناس والألسنة، حتى إذا صارت إليه هذه الألوان المختلفة من الناس، أحالها لونا واحدا، وأوردها مشربا واحدا، وجمعها على أمر واحد!.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} هو خبر يراد به الأمر، أي أن اللّه سبحانه، قد فرض على الناس أن يحجوا إلى هذا البيت، وأن يذكروا اللّه فيه، لينالوا حظهم المقسوم لهم من نفحاته، وبركاته.
وكلمة {الناس} هنا تعنى النّاس جميعا، لا تخصّ أمة من الأمم، ولا تنحصر في شعب من الشعوب، إنها دعوة اللّه إلى كل النّاس، أسودهم وأحمرهم، وأبيضهم، على السواء.. إنهم عباد اللّه، والبيت بيت اللّه.
وفى قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قيد وارد على الأمر العام المطلق بالحج، فلابد لنفاذ هذا الأمر، من الاستطاعة، فإذا فقد الإنسان الاستطاعة فلا حجّ عليه! والاستطاعة هنا استطاعة عامة، تشمل القدرة المالية، والقدرة الجسدية، كما تشمل أمن الطريق، وكما تشمل قبل ذلك كلّه، الإيمان باللّه.. فغير المؤمن باللّه، لا يتجه إلى بيته، ولا يسعى إليه.. فهو في حكم غير المستطيع، إذ قام الكفر حجازا بينه وبين هذا البيت.
وفى قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ} إشارة إلى أن الكافر صادّ عن بيت اللّه، لا يستجيب لهذا الأمر الذي دعا اللّه فيه الناس جميعا، أن يحجوا إلى بيته.. فكأنه جنس آخر غير جنس الناس المدعوين إلى بيت اللّه!

.تفسير الآيات (98- 99):

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}.
التفسير:
دعا اللّه النّاس إلى أن يحجّوا إلى بيته، ولكن الذين كفروا باللّه محجوزون بكفرهم عن إجابة هذا النداء.. فاللّه غنىّ عن العالمين! وأهل الكتاب- وخاصة اليهود- من الذين كفروا بآيات اللّه، فلم يدخلوا في هذه الدعوة، ولم يستجيبوا لها، وقد أمر اللّه النبيّ الكريم أن يلقاهم بهذا السؤال الذي ينكر عليهم هذا الموقف الذي وقفوه من الدعوة الإسلامية وآياتها البينات، خاصة وأنهم أهل الكتاب، تلتقى دعوته مع دعوة الإسلام، لو أنهم آمنوا بما في كتابهم، ولم يحرّفوا الكلم عن مواضعه.
{يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ}.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ} تهديد لهم، ووعيد بسوء المصير، جزاء أعمالهم المنكرة، وكفرهم العنادىّ.. وذلك كلّه واقع في علم اللّه، الذي لا تخفى عليه خافية.
ولو وقف أهل الكتاب بكفرهم عند حدّ، وقصّروا هذا الكفر على ذات أنفسهم، لكانت مصيبتهم مصيبة، ولكنهم تجاوزوا هذا الموقف القاتل، إلى إضلال غيرهم، وإلى التشويش على المؤمنين، وإفساد دينهم عليهم، إذ يصدّون المؤمنين عن سبيل اللّه، بما يلقون إليهم من أباطيل، وما يسوقون إليهم من فتن.. إنهم لا يريدون لأحد أن يستقيم على سبيل اللّه، لأنهم يعلمون أنهم على طريق الضلال، وأنهم هالكون، وإنه لعزيز عليهم أن يسلم الناس.. وإذن فليضلّ الناس كما ضلوا، وليهلك الناس كما هلكوا.. وذلك شأن المفسدين، إخوان الشياطين، يغوون الناس، ويزينون لهم سبل الفساد، ليكون معهم من يصاب بما أصيبوا به، وفى ذلك عزاء لهم، وإنه لبلاء إلى بلاء!.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ} [69: آل عمران].
ويقول سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً} [89: النساء].

.تفسير الآيات (100- 101):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}.
التفسير:
بعد أن كشف اللّه- سبحانه- أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، وما يبيّتون للمؤمنين من مكايد وفتن، ليفسدوا عليهم دينهم- دعا اللّه المؤمنين إلى أن يأخذوا حذرهم من هؤلاء الضالين المضلّين من أهل الكتاب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ}.
والفريق المعنىّ هنا من أهل الكتاب، هم العلماء منهم، والذين يحسنون وسائل التضليل والخداع، بما لهم من علم، وفى قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}، تنبيه للمؤمنين وتحذير لهم، وتسفيه لمن تسوّل له نفسه منهم أن يستجيب لدعوة هؤلاء الضالّين، ويعطيهم منه أذنا واعية.
إذ كيف ينفذ هذا الضلال إلى قلب مؤمن، وهو يستمع إلى آيات اللّه تتلى عليه، ويرى بعينيه رسول اللّه قائما على رسالة السّماء، يتلقى آياتها، ويفيض على الناس منها؟ كيف- والأمر كذلك- يتحول عاقل من الناس من النور إلى الظلام، ومن الهدى إلى الضلال؟ إن ذلك لن يكون إلا من أحمق، أو سفيه، أو مجنون!
وفي قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} توجيه إلى الطريق الذي ينبغى أن يستقيم عليه العاقل، ويلتزمه، وهو الإيمان باللّه، والاعتصام به من وسوسة الضالين، وكيد المبطلين، فذلك هو الذي يعصم المؤمن من الزلل، ويحميه من الضلال، وفى هذا نجاته وسلامته.

.تفسير الآيات (102- 103):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)}.
التفسير:
بعد أن حذّر اللّه- سبحانه- المؤمنين، في الآيتين السابقتين (100، 101) من أن يأمنوا جانب تلك الجماعة المنحرفة من أهل الكتاب، التي تدبّر لهم الشر، وتحيك لهم الضلال، لتفسد عليهم دينهم، ولتفتنهم فيه- بعد هذا توجّه سبحانه بهذا النداء الكريم إلى المؤمنين في خاصة أنفسهم، ليحذرهم من العدو الخفي، بعد أن حذّرهم من العدو الظاهر.
وهذا العدو الخفي، هو النفس، ونزعاتها، وأهواؤها، تلك الأهواء والنزعات التي إن تسلطت على الإنسان أفسدته وأهلكته، وكانت أشدّ وبالا عليه من أعدى أعدائه الذين يراهم رأى العين! وفى هذا النداء الكريم، يدعو اللّه المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يأتمروا بما أمرهم اللّه به، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا!
وقد فسّر بعض المفسّرين تقوى اللّه حق تقاته، بالتقوى التي تتناسب مع جلال اللّه، وكماله، وعظمته.. وهذا مقام لا يستطيعه بشر من البشر، ولا خلق من خلق اللّه.
ولهذا رأى هؤلاء المفسرون أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [16: التغابن] والواقع أنه لا تعارض بين الآيتين، وإذن فلا تناسخ بينهما! ذلك أن معنى قوله تعالى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ} الاجتهاد في عبادته، وفى طاعته، على قدر ما تسع نفس الإنسان وتحتمل، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} [233: البقرة]. وهو ما تشير إليه الآية الكريمة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
فالتقوى على قدر الاستطاعة هي التقوى حقّ التقوى، وهى المناسبة لقدر الإنسان ولحظّه من الكمال المقدور له.. وعلى هذا، فالناس على منازلهم من تقوى اللّه، كل حسب وثاقة إيمانه وقوة عزيمته، لا على حسب ماللّه من كمال وجلال، فذلك مالا يبلغه إنسان.. أما ما ينبغى للّه من قدر وكمال فلن يبلغ أحد ذرة منه! وحسب الإنسان لكى يكون من عباد اللّه، أن يؤمن باللّه أولا، وأن يجتهد في عبادته وطاعته ما استطاع، وإن فاته شيء من التقوى والعبادة- وهذا ما لابد أن يكون- فلن يفوته سلامة معتقده في اللّه، وإخلاصه في الإيمان بوحدانيته، ثم الموت على هذا المعتقد- فإن فاته ذلك فقد حبط عمله، وضلّ سعيه، وأورد نفسه موارد الهالكين.
وبعد أن ثبت اللّه قلوب المؤمنين على الإيمان، دعاهم دعوة أخرى، وهى أن يكونوا جبهة واحدة في وجه الأعداء المتربصين بهم.. فقد عرف المسلمون آثار الفرقة فيما كانوا عليه هم وآباؤهم في الجاهلية، من عداوة وبغضاء، ومن خلاف وشقاق، الأمر الذي ملأ قلوبهم خوفا، وغمر ديارهم فقرا وحزنا!.
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها}.
هكذا كان المؤمنون، ثم هكذا أصبحوا.. كانوا أعداء فألّف اللّه بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمته إخوانا. وكانوا عبدة أوثان وأصنام، وفى شرك وضلال يهويان بالمشركين الضالين إلى مهاوى السعير.. وكان هؤلاء الذين أدركهم الإسلام من مشركى الجاهلية على حافة الهاوية، فأنقذهم اللّه، إذ دخلوا في الإسلام، وكانوا من المسلمين! فليذكر المسلمون هذا الذي كانوا فيه.. فإن لم يذكروه في أنفسهم ذكروه في آبائهم وأجدادهم.. ثم ليذكروا هذه النعمة السابغة التي أضفاها اللّه عليهم بالإسلام، ثم ليحفظوا هذه النعمة، وليحرصوا عليها، وليحرسوها من الآفات التي تطلع عليها من آفاق شتى.. وبهذا يسلم لهم دينهم، وتسلم لهم أنفسهم.

.تفسير الآيات (104- 107):

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)}.
التفسير:
علماء أهل الكتاب هم الذين أفسدوا على الناس دينهم، فغيروا، وبدلوا، وحرفوا.. وهذه خيانة للّه، وخيانة للعلم، إذ كان العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم المؤتمنون على دعوة السماء، بعد الرسل، يعلّمون الجاهلين، ويهدون الضالين، ويقيمون المنحرفين، فإذا تحول العلماء أنفسهم إلى أدوات هدم وتدمير في المجتمع، كانت المصيبة قاصمة مهلكة! من أجل هذا، كانت دعوة اللّه سبحانه وتعالى إلى الأمة الإسلامية، أن تندّب منها أمة، أي جماعة، يتولون قيادة الناس، وهدايتهم إلى سبل الرشاد.
فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. وبهذا يقومون في المجتمع مقام الأطباء، الذين يرصدن الآفات والأمراض التي تعرض للناس، فيعملون على دفعها، والقضاء عليها.. ويمكن أن يكون قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} دعوة للأمة الإسلامية كلها أن تكون على تلك الصفة.. أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر. ويكون معنى من في {منكم} للبيان لا للتبعيض، وهذا ما يناسب قول اللّه تعالى بعد هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [110: آل عمران] وسواء أكان الأمر موجها إلى الأمة الإسلامية كلها، أو إلى جماعة العلماء المتخيّرة فيها، فإنّ معطيات هذا الأمر واحدة، حيث تكون الأمة كلها منقادة للقيادة الرشيدة فيها، وهى جماعة العلماء العاملين بعلمهم، الداعين إلى الخير، الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وبهذا تصبح الأمة كلها على هذا الطريق المستقيم.
وإذ يأمر اللّه تعالى الجماعة الإسلامية بهذا، فإنه يحذّرها من أن تذهب مذاهب الجماعات المنحرفة من أهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا، ولم يقم من بينهم راشدون، يقومون في وجه تلك الانحرافات، وهذه الاختلافات، فكان أن ضلّوا جميعا، وهلكوا جميعا!! وهكذا شأن الجماعات التي تفقد القيادة الرشيدة.. لا يستقيم لها طريق، ولا تستقر لها حال.. إنها أشبه بالغنم ليس لها راع يوردها موارد العشب والماء، ويدفع عنها عادية الذئاب والسباع.
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الظرف هنا متعلق بقوله تعالى: {وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي أنهم يعذبون عذابا أليما في هذا اليوم، يوم الحساب والجزاء.. يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه.
وابيضاض الوجوه واسودادها، كناية عن البهجة والنعيم الذي يعلو وجوه المؤمنين، والخزي والسوء الذي يحيط بالكافرين، في ذلك اليوم العظيم.
وفى قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ} بيان لما أجمل في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}.
ولم يجيء هذا التفصيل مرتبا على حسب ما جاء في المجمل قبله، إذ كان الترتيب يقضى بأن يبدأ بالذين ابيضت وجوههم، حيث بدئ بهم أولا.
والذي جاء عليه النظم القرآنى، هو البيان المبين، الذي هو سمة الإعجاز من كلام ربّ العالمين، فقدّم أولا الذين ابيضت وجوههم وهم المؤمنون، لأن ذلك كان تعقيبا على ذكر الأمة الإسلامية، وما ينبغى لها أن تصون نفسها عنه، مما وقع فيه أهل الكتاب من فرقة وخلاف، كان لعلمائهم فيه الدور الأول.. ثم ذكر إزاء هذه الصورة صورة أهل الكتاب، وما يكون عليهم حالهم يوم القيامة: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} المؤمنين {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الكافرين من أهل الكتاب!.. وفى هذا ما فيه من تطمين للأمة الإسلامية، وترسيخ لأقدامها على الإيمان، والوحدة والألفة.
فإذا جاء تفصيل هذا الإجمال، ووقع تأويله، وسيق الناس إلى الحساب والجزاء قدّم أولئك الكافرون، ليقفوا موقف المذنبين للمحاكمة، ولم يمهلوا، وذلك إشعار لفظاعة جرمهم، وشناعة ذنبهم، الذي يقتضى تعجيل الجزاء السيّء الذي ينتظرهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [87، 88: آل عمران].
وفى التعجيل بعرض هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب ما يدخل الطمأنينة على المؤمنين، الذين ينتظرون دورهم في ساحة الحكم.. فهذا الحكم الذي يقضى به على هؤلاء الكافرين فيه براءة ضمنية لغيرهم من المؤمنين، ولكنها براءة مشوبة بالخوف، محفوفة بالخشية.. فإذا جاء بعدها هذا الرضوان الذي يفتح لهم أبواب الجنات، وما يلقون فيها من نعيم- زادهم ذلك نعيما إلى نعيم، ورضوانا إلى رضوان.
{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
وانظر كيف كانت مساءلة الكافرين، وكيف كان خزيهم وعيّهم عن ردّ الجواب {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ}.
ثم انظر كيف كان الجواب على هذا السؤال: {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} وفى قوله تعالى: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ} إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين هم أهل الكتاب الذين تحولوا من الإيمان إلى الكفر، وهم الذين أشار إليهم اللّه سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [91: آل عمران].
وفى قوله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} إشارة ثانية إلى هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب الذين كذّبوا بمحمد، وكفروا بآيات اللّه التي بين أيديهم، فيما تحدّث به عنه.
والمعنى: فذوقوا العذاب بسبب هذا الذي كنتم تكفرون به، وهو محمد وما تحدثكم به التوراة عنه.
ثم انظر بعد هذا، وفى الجانب الآخر من الصورة، تجد المؤمنين وقد انتقلوا من هذا الموقف، موقف المحاكمة، في لحظة خاطفة، دون أن يسألوا.
فإذا هم في رحمة اللّه هم فيها خالدون.. {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.